الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة بقلم الناقدالطاهر الشيخاوي مراسلنا من كان: السينمائي كريم الدريدي بين المهارة والتفرد

نشر في  08 جوان 2016  (11:22)

 الحديث عن هوية الأفلام مسألة إشكالية ومتواترة، وذلك منذ زمان. عموما هناك موقفان: موقف أمريكي يعتمد هوية المنتج وموقف فرنسي يعتمد هوية المخرج. فالأمر بسيط بالنسبة للأفلام الفرنسية والأمريكية، لكنّـه يصبح شائكا كلما تعلقت المسألة بالأعمال القادمة من إفريقيا أو من البلدان الفقيرة عامة، فيحدث أن تتضارب هويةُ المخرج مع هوية المنتج.

ولنأخذ مثالا من الدورة الحالية لمهرجان كان السينمائي: « حسين حبري، تراجيديا تشادية » فيلم أخرجه محمد صالح هارون وهو تشادي ولكن شركة إنتاجه الرئيسية فرنسية، مع العلم أن شركة تشادية تحملت جزءا من الإنتاج. ولكن يمكن أن تزداد المسألة تعقيدا لما يكون المخرج حاملا لجنسيتين، وهذه الحالة منتشرة إلى حدّ ما في بلاد المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب) وبالخصوص -والأمر شائع أيضا- لما يكون المخرجُ منتجا لِعمله. فتتداخل عوامل مختلفة : هوية المخرج وهوية المنتج وهوية الفيلم إن صحّ التعبير أي مكان تصويره ولغة التخاطب فيه. ويمكن أن يتضاعف التعقيد إلى درجة يصبح فيها السؤال عبثيا. ومثال ذلك قضية المخرجين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الإحتلال أو في اسرائيل كمها حاج التي شاركت هذه السنة ب « أمور شخصية » في قسم نظرة ما، وكنا تعرضنا إليه في تغطيتنا السابقة.

أي هوية وأي جنسية للأفلام المشاركة في مهرجان كان؟

وحتّى نفهمَ كيف واجه مهرجان كانْ هذا الموضوع، وَجب الرجوع إلى الوثائق الرسمية. فبالنسبة للبرنامج الرسمي أي المسابقة الرسمية ونظرة ما والأفلام خارج المسابقة، يسبق اسمُ المخرج عنوانَ الفيلم مع ذكر جنسية المخرج ثم تاريخ ومكان ولادته، وبعد ذكر الفيلم تأتي مدتُه واللغة المتكلمة فيه فشركة الإنتاج والشركاء والموزعون ثم على يمين الصفحة القائمة الفنية من اخراج وسيناريو وصورة وديكور ومونتاج وموسيقى وممثلين.


بالنسبة إلى قسم «أسبوعي المخرجين» وهو كما سبق أن قلنا قسم مواز تنظمه شركة مخرجي الأفلام منذ سنة 1969، يتصدر الصفحةَ الأولى إسمُ المخرج ثم تأتي سيرتُه وأعمالُه بينما يُخصَّص الجزءُ الثاني من الصفحة للجذاذة الفنية التي على عكس الأقسام الرسمية للمهرجان تبدأ بالسيناريو والصورة والصوت والديكور والمونتاج والموسيقى والممثلين ثم تأتي شركة الإنتاج والتوزيع، أما الصفحة الثانية فهي مخصصة كلّها للشريط، تتصدرها صورة ثم يأتي الملخص تماما كما هو الشأن بالنسبة  إلى المسابقة الرسمية مع فارق بسيط وهو أن عنوان الفيلم في الأقسام الرسمية يأتي في الصفحة الأولى بعد إسم المخرج.
أما في خصوص «أسبوع النقد» فالبداية بالفيلم، الصورة والعنوان والبلد المنتج أو البلدان المنتجة مع الترتيب المناسب ثم السنة والمدة واللغة المعتمدة، بعدَها يأتي الملخص وتليها الجذاذة التقنية أي حسب الترتيب المخرج والمنتج والسيناريست ومدير التصوير والمونتير ومهندس الصوت والديكور ثم الممثلون، وفي الصفحة المقابلة تأتي تفاصيل حياة المخرج وأعماله وأيضا بقية اسماء شركات الإنتاج والتوزيع والمكلفون بالبيوعات إلخ...تبدو هذه الأمور شكلية ولكن دلالاتها كبيرة.
فلا وجود إذا لجنسية الفيلم ولا تُـذكر إلا جنسية المخرج وتاريخ ومكان ولادته.
ملخص الأمر هو أن للمخرج جنسية ولشركة الإنتاج بلدا.

مؤاخذات تتعلق بالوفاء للوطن وبخيانته

إذا كنا توقفنا كثيرا أمام هذه المسائل فلأنها تثيرُ بيننا الكثيرَ من الجدل الذي يتحول أحيانا إلى صراعات حادّة ومؤاخذات تتعلق بالوفاء للوطن أو بخيانته. وفي الواقع هناك خلط بين المستويات راجع إلى التركيبة المعقدة لصناعة الأفلام ففيها الفني والثقافي والسياسي والإقتصادي.
ولكن في تقديرنا، الأهم هو «هوية» الفيلم النابعة من قراءته وهذا يختلف من شخص إلى آخر  إلاّ إذا اقتصر الأمر على دراسة اقتصادية للشريط، عندها لا دخل فيها للفن ولا للثقافة.
هذا لا يمنعنا من التعرض إلى عدد من الأفلام التي يتعلق موضوعها بثقافتنا أو تلك التي نفترض أن لأصحابها اهتماما بها. وليقتصر حديثنا اليوم على واحد منها.

كريم الدريدي واحد من أبرز المخرجين التونسيين الفرنسيين

إسمه عربي. وُلد في تونس وعنوان شريطه عربي وشخصياته في أغلبها من أصل عربي ولكن جنسيته كما سبق أن قلنا فرنسية « شوف» كلمة عربية، ولكن لها معنى خاصّ في الأحياء الشعبية بفرنساوتدلّ  على الشباب المكلفين بحراسة عصابات المخدرات وتترصد تحركات الشرطة. والطريف أن للكلمة تاريخا استعماريا فهكذا كان الجنود الفرنسيون يلقِّـبون المقاومين الجزائريين الذين يحرسون رفاقهم في الجبال. دخلت الكلمة المعجمَ الفرنسي فأصبح الفعل إسما غير ثابت يصرف في المفرد والجمع طبقا لقواعد النحو الفرنسي…

«شوف» ثالث فيلم لكريم الدريدي حول الأحياء الشعبية والمهمشين

«شوف» ثالثُ فيلم يخرجه كريم دريدي حول مرسيليا، يختتم ثلاثيةً أولُها « باي باي »1995 وثانيها « خمسة » 2008. لا بد من الإقرار في البداية أن كريم الدريدي سينمائي مهوس، يشغله وفي العمق هوسُ الأحياء الشعبية وحياةُ المهمشين. ماانفكّ منذ بداياته يسائل المجتمع الفرنسي في علاقته بالفئات المهمشة. ونجح في ذلك بشهادة النقاد. اختار هذه المرة أن يغوص في عالم العصابات وعمل جاهدا على الوصول إلى مبتغاه معتمدا على شباب أبَى إلاّ أن يعرفهم معرفة جيدة : سفيان شاب في الرابع والعشرين من عمره، طالب ناجح في دراسته، يرجع للحي الذي نشأ فيه بعد وفاة أخيه الذي قتل في تصفية حسابات بين عصابات متنافرة. يعدل عن دراسته ويدخل عالما لم يعرفه من قبل وينغمس فيه فينحدر إلى عمق أعماقه، فيسوقنا معه إلى متابعة دقيقة دون أي مجاملة لعالم الإجرام في الأحياء الشمالية بمرسيليا. يقول كريم الدريدي في الملف الصحفي الذي وزع على الصحافيين ما يلي : « أنجزت هذا الفيلم للحديث عن الحتمية الإجتماعية التي تحكمنا جميعا. جل هؤلاء الشبان لم يحصلوا أبدا على امكانية الدراسة والتمتع بالعطل وبأولياء وجدوا أو أخذوا متسعا من الوقت للإهتمام بهم، وباختصار لم يتمتعوا بالحياة العادية للشباب الفرنسي المتوسط الحال. هؤلاء الشباب وُلدوا في وسط من الصعب جدا الإفلات منه  حتى وإن ارتقى بعضهم إلى مستوى متقدم في الدراسة. بطل فيلمي شاب فرنسي من أصل مغاربي، موهوب في دراسته، حظي بوالدين اهتما به، فتابع دراسات عليا في التجارة ولكنه ولد في حي « صعب » كما يقال. فما إن رجع إلى أهله حتى عاد إلى وضعه فأصبح من المستحيل بالنسبة إليه الخروج منه ومقاومة قدره ».   وفي خصوص اختيار مدينة مرسيليا يضيف كريم الدريدي : « إذا ما جمعتم  بواتو شارانت وجربة (أي المكانين اللذين أتيت منهما) فحصيلة الجمع تعطي مرسيليا ».    

اعتراف بقيمة الدريدي

لا بد أولا من التنويه بالمستوى الراقي للحرفية التي تميز بها الشريط وذلك على كل المستويات (الصورة والصوت والمونتاج إلخ)، مع الإشارة بالخصوص إلى مهارة كريم الدريدي في إدارته للممثلين. كان آداؤهم مبهرا، يجعلك تنخرط في الحكاية من بدايتها إلى نهايتها. وجاء نتيجة عمل دام سنتين قضاهما المخرج في تنشيط ورشة تمثيل معهم. كل هذا لا بد من التنويه به، فوجود الفيلم في الأقسام الرسمية وإن كان خارج المسابقة اعتراف من أهم مهرجان سينمائي في العالم بقيمة الدريدي، وهو اعتراف مستَحقٌّ بدون أي شكّ.
مع التذكير أن كريم الدريدي ليس غريبا عن مهرجان كانْ حيث تحصل على جائزة الشباب سنة 1995 بشريطه « باي باي » الذي عرض في قسم « نظرة ما ». كما مرّ بأهم المهرجانات العالمية كالبندقية وبرلين ولوكارنو إلخ… كل هذا يجعل من كريم الدريدي واحدا من أهم المخرجين الفرنسيين و من أهم المخرجين الفرنسيين التونسيين إلى جانب عبد اللطيف كشيش.

بعض الملاحظات حول فيلم «شوف»

ولكن كان لا بد من إبداء ملاحظات حول القيمة الفنية لـ « شوف ». اِختار المخرج بكلّ وعي الإنخراط في ما يسمى بسينما « الجنس » كالثريلر والوستارن ولم يتورع عن استعارة العديد من الأساليب المعروفة في هذه الأفلام شكلا ومضمونا كاستعماله لمعيار السكوب أي الشاشة العريضة متوخيا أساليب الإثارة المعهودة في أفلام الحركة الشيء الذي أنتج إشكالا كنا قد تعرضنا له في حديثنا سابقا حول المخرج المصري محمد ذياب. وهو أن المقاربة الإجتماعية التي اشتغل عليها المخرج وحرصَه على إعطاء صورة للأحياء الشعبية بمرسيليا مختلفة على الكليشيهات المتداولة إعلاميا كانا هذان العاملان في تناقض تام مع ما آل إليه الفيلم. فخرجنا تماما أو كِدنا من هذا الواقع بفعل هذه الأساليب لنجد أنفسنا تحت وطأة كليشيهات أخرى لا تفرغ الفيلم من شحنته الإجتماعية والإنسانية فقط بل تسجُنه في قوالب جامدة وايديولوجيا مريبة. حرِصناعلى التأكيد على هذا الأمر لأنه جاء نتيجة جانبية لتطور ملحوظ في مسار المخرج وامتلاكه لأدوات اللغة السينمائية. وأصبحت هذه النزعة اتجاها لدى عدد من هؤلاء السينمائيين الناشئين سواء كانوا عربا يشتغلون في بلدانهم كمحمد ذياب في مصر أو فرنسيين من أصل عربي كرشيد بوشارب المخرج الفرنسي الجزائري المتفوق صاحب « أنديجان » و « أور لا لوا » والذي شارك في فيلم « شوف » كمنتج. هذا لا يعني طبعا أن استعارة الأجناس السينمائية الكلاسيكية أمر مشين في المطلق بل يمكن أن يكون ناجحا على شرط التوفيق في تحويل وجهة المواد المستعارة لصالح المشروع الاصلي للشريط. وحتى نكون واضحين يمكن ذكر فيلمين نجح أصحابهما في هذا المجال  وهما « بيع الموت » لفوزي بنسعيدي و « ديب » لناجي أبو نوار  وكلاهماانخرطا بوضوح في قالب كلاسيكي.